النّسب لغة من فعل نسب ينسب نسبا ونسبة : إلى فلان أو إلى كذا عزاه إليه. والنسب هو القرابة وهو أيضا سلسلة تتابع الأنسال في الأسرة الواحدة أو في العرق الواحد .
والأصل في الكلمة يعود إلى العرب في الجاهلية حين كانت القبيلة هي الأساس الواسع فكان إرتباط أفراد الأسرة الأعضاء كارتباط القبيلة الأم مؤسّسا على النسب المبني على قرابة العصوبة أي قرابة الرّجال الذين لهم جميع حقوق الإرث وغيرها.
ولئن تعرّض المشرّع التونسي إلى مسألة النسب في م أ ش إلاّ أنّه لم يتولّ تعريفه ويرى الفقهاء أنّه تبنّى أحكام النسب الواردة في الشريعة الإسلامية دون أن يدخل عليها أيّة تحويرات معتمدا على آراء فقهاء الحنفيّة والمالكيّة في مختلف مسائله وفي إستنباط الحلول لها. لذا فإنّ التعريف القانوني لمصطلح النسب يحتّم علينا الرجوع إلى ما قدّمه فقهاء الشّريعة من تعريفات له.
ويعرّف النّسب في التّشريع الإسلامي بأنّه الرّابطة الشّرعية التي تربط بين الطّفل وأبيه وقد ذهب الشيخ الفاضل بن عاشور إلى تعريف النسب بأنّه علاقة البنوة المبنيّة على زواج شرعي أي ما يقابل التّعبير الفرنسي filiation légitime .
ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نستخلص خاصيّتين أساسيّتين لمصطلح النسب كيفما إتّفق فقهاء الشريعة على تعريفه وكما ورد بالفصل 68 وما بعده م أ ش.
فالنسب هو أوّلا علاقة الطفل بوالده ذلك أنّ إنتساب الولد لأمّه يثبت في جميع الحالات بمجرّد الولادة سواء كانت شرعية أو غير شرعية . ومعلوم أنّ إهمال علاقة الأمومة في مادّة النسب يرجع إلى تفوّق الذّكر في العائلة عند العرب لقدرته على التكسّب والإنفاق وقدرته على الدّفاع عن نفسه وعن عشيرته. لذلك فإنّ مصلحة الطفل تقتضي أن يثبت نسبه بصفة أساسيّة تجاه أبيه وهي مصلحة ماديّة باعتبار أنّ الأب هو المطالب بالإنفاق على أبنائه بصفته رئيسا للعائلة وهي مصلحة معنوية أيضا نظرا وأنّ الأب مؤهّل أكثر من الأم عادة إلى توفير الحماية والرعاية لأبنائه هذا إضافة إلى أنّ بقاء الطفل مجهول النسب من الأب يعتبر مصدر عار له وتبقى صفة ابن الزنا ملازمة له طيلة حياته. ويتدعّم هذا التحليل بمقتضيات الفصل 68 م أ ش الذي إقتضى صراحة أنّه :" يثبت النّسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثّقة ." وكذلك بمقتضيات الفصل 72 م أ ش الذي إقتضى أنّ :" انقطاع الولد من نسب أبيه يخرجه من العصبة ويسقط حقّه في النفقة والإرث ."
والنّسب في التّشريع الإسلامي ليس مجرّد علاقة دمويّة بين الطّفل وأبيه فحسب وإنّما يشترط في هذه العلاقة أن تكون علاقة شرعيّة. فلئن كانت علاقة الولد بأمّه ثابتة في جميع حالات الولادة شرعيّة كانت أم غير شرعيّة فإنّ علاقة الطّفل من أبيه لا تثبت إلاّ من طريق الزّواج الصّحيح أو الفاسد أو الوطء بشبهة أو الإستلحاق إذا توفّرت شروطه.
فالشريعة الإسلامية تعتبر إذن أنّ النّسب رابطة سامية وصلة عظيمة على جانب كبير من الخطورة، لذلك يرى الفقهاء أنّ الشارع أحاطها بسياج منيع يحميها من الفساد والإضطراب وعلى ذلك وضع لثبوت النسب سببا واضحا وهو الإتّصال بالمرأة ومخالطة الرجل لها بطريق من طرق الحلّ فإذا تحقّق ذلك الحمل أو شبهته وحصلت تلك المخالطة بين الزوج وزوجته كان الرجل أبا للولد الذي نتج عن هذه المخالطة ويؤسس الفقهاء هذا القول على حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم الذّي جاء فيه أنّّ :" الولد للفراش وللعاهر الحجر."
وهذا الحديث النبويّ يبرز بوضوح تغليب الشريعة الإسلاميّة للعلاقات الشّرعيّة على العلاقات الآثمة ويعدّ دليلا أيضا على عدم إمكانيّة إثبات نسب إبن الزّنا، ويتأكّد هذا الموقف بما أجمع عليه الفقهاء المسلمون من أنّ النّسب نعمة عظمى أنعم الله بها على الإنسان ولا يمكن تبعا لذلك للنّعمة أن تتأتى من طريق حرام فالله عزّ وجلّ هو الذّي منّ على الإنسان بنعمة النسب لقوله تعالى :" هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا."
وكان من نتائج هذا الطرح أنّ الزّنا في الشّريعة الإسلاميّة لا يصلح سببا لثبوت النّسب إعتبارا وأنّه من الفواحش التي نهى عنها الشّارع وقرّر لها عقوبات هيّ من الأهميّة بمكان ذلك أنّ الجلد أو الرّجم يوحي بمدى إستنكار الشريعة لهذه الجريمة لما لها من آثار عائليّة وإجتماعيّة وخيمة ،إذ يقول عزّ وجلّ في محكم تنزيله :" ولا تقربوا الزّنا إنّه كان فاحشة وساء سبيلا ." لذلك يعدّ ابن الزّنا في الشريعة الإسلاميّة إبنا غير شرعيّ مقطوع النّسب من أبيه ولو كان هذا الأب معروفا أو من الممكن معرفته.
وفي نفس الإتّّجاه سار المشرّع التونسي في م أ ش وبقيت البنوة الغير شرعية أو ما يسمّى بالبنوة الطبيعية* غير منظّمة في القانون التونسي ولم يقرّر المشرّع لها أحكاما خاصّة بها سوى أنّ الفـصـل 152 م أ ش هو الفصل الوحيد الذي تحدّث عن ابن الزنا إذ أقرّ علاقته بأمّه وقرابتها فقط ورتّب عنها آثارا منها أنّه يرث أمّه وقرابتها وترثه أمّه وقرابتها. وهو نفس المنحى أيضا المنتهج من طرف بقية التشاريع في الدّول العربية والإسلامية.
أمّا المشرّع الفرنسي وعديد التشاريع الغربية فقد إعترفت بالأبناء الغير شرعيين أو الطبيعيين وخوّلت لهم إثبات البنوة وأقرّت لهم نفس الحقوق تقريبا المقرّرة للأبناء الشرعيين.
ويقسّم علماء القانون الأبناء الطبيعيين « les enfant naturels » إلى عديد الأصناف حيث نجد الطفل الطبيعي البسيط «enfant naturel simple »وهو المولود لشخصين غير مرتبطين بعلاقة الزوجية دون أنّ يكون هناك مانع من موانع الزواج بينهما. والولد الطبيعي من زنا « enfant adultérin » وهو المولود لشخص مرتبط بعلاقة زوجيّة أخرى، ويعتبر الابن طفل زنا للأب إذا كان الأب مرتبطا بعلاقة زوجية أخرى، ويعتبر ولد زنا للأم إذا كانت الأم مرتبطة بعلاقة زوجية أخرى. أمّا القسم الثالث من الأبناء الطبيعيين فهو ما يعبّر عنه الفقهاء بابن القرابى « enfant incestueux » وهو إبن لشخصين مرتبطين بعلاقة قرابة أو مصاهرة تحول دون إمكانية إبرام الزواج بينهما كالخال وابنة الأخت أو الأخ والأخت..
ومن جهته استقر فقه القضاء التونسي أنّ النّسب في م أ ش شرعي أو لا يكون وأكّدت محكمة التعقيب في عديد المناسبات تشبّثها بالمفهوم الشّّرعي لمصطلح النّسب بما هو نعمة والنّعمة لا يمكن أن تتأتّى من محرّم، وأنّ العلاقات الآثمة لا يمكن أن تكون أساسا يثبت به النسب، لما قد يترتّب عن ذلك من إختلاط في الأنساب وفوضى في الأخلاق وتشجيعا على الفاحشة والفسق في المجتمع واستهانة بعقد الزواج الشّرعي الذي تتكوّن منه الأنساب والأسر المترابطة .
إثبات النّسب بين م أ ش والقانون عدد75 لسنة 1998
رسالة تخرّج من المعهد الأعلى للقضاء
تعليقات
إرسال تعليق